الباب الأول: مدخل مفاهيمي وتاريخي

يتمحور جوهر الديمقراطية حول تعبير مؤسسات الحكومة وآلياتها عن الإرادة الفعلية للشعب، وأن تتصرف هذه المؤسسات بشكل فعال لصالح الشعب. والمقصود بالشعب هنا المواطنات والمواطنون من كل خلفية اجتماعية بحيث يكونوا مؤهلات ومؤهلين للمشاركة في عملية الحكم الديمقراطي. ولكي تتحقق الديمقراطية، يجب أن تكون للمواطنات والمواطنين طريقة وصول بشكل مباشر أو غير مباشر إلى عملية الحكم.1 ولهذا فمن الضروري وجود مجال يمكن فيه تحقيق احتياجات ومصالح الشعب، وتوجد فيه آليات لقياس ومعرفة مصالح وإرادة الشعب.

تتشكل فرصة المشاركة السياسية حين يعبر/تعبر المواطنون/ات عن احتياجاتهم/ن ورغباتهم/ن من خلال إحدى الطرق المباشرة مثل الانضمام لحزب سياسي أو حشد أو شغل مناصب عامة وغيرها. هنا يتم قياس الإرادة الشعبية عن طريق صناديق الاقتراع. غير أن هناك فضاء آخر يجتمع فيه المواطنون/ات للتواصل فيما بينهم ومع أعضاء الحكومة. هذا الفضاء هو ما أسماه الفيلسوف الألماني يورجن هابرماس بـ "المجال العام". ويعرف هابرماس المجال العام على أنه ذلك الفضاء الذي يمكن فيه تكوين ما يشبه الرأي العام ويقوم على أساس المساواة. نستخلص من هذا أن المجال العام يتكون مع كل نقاش عام يحدث من خلال أشخاص اجتمعوا لتكوين كيان عام، فلا هم يتصرفون مثل قطاع الأعمال الخاص، ولا هم أشخاص دولة يتحركون داخل منظومة ما تحكمها بيروقراطية وقوانين الدولة. وتكون ضمانات هذا المجال هي الحريات؛ حرية التنظيم وحرية التجمع وحرية التعبير والرأي ومشاركة المعلومات والآراء حول مواضيع واهتمامات عامة. حين تكون السلطة السياسية للدولة تخضع للمطلب الديمقراطي الخاص بإتاحة كافة المعلومات لمشاركتها مع العامة، يفز المجال العام السياسي بالنفوذ المؤسسي على الحكومة من خلال آلية صنع القرار وسن القوانين.2

تعتبر نظرية المجال العام الخاصة بهابرماس نظرية سياسية تجذب إلهامها من المدرسة التقليدية للتنوير، والتي تتعارض معها العديد من النظريات النسوية. فنظرية المجال العام بشكلها التقليدي قلما ناقشت النوع الاجتماعي إلا في حدود ضيقة. غير أن النظرية هي واحدة من أقوى التحليلات الحالية للقواعد السياسية والاجتماعية. وهذا ما جذب الأكاديميات النسويات للنظرية رغم عجزها عن إدماج النوع الاجتماعي. ومع إدراك النسويات لأهمية الإطار النظري الذي طوره هابرماس وكذلك تمييزه بين المجالين العام والخاص، إلا أن العديد منهن اتفقن في المجمل على أن النظرية والتحليل الخاص بها يعاني من الحياد النوعي وعدم مراعاة الاعتبارات الجندرية التي ينتج عنها اختلافات في الوضع الاجتماعي والسياسي بين النساء والرجال.3 على سبيل المثال، عانت النظرية من قصور في تحليلها للعلاقات التي تنشأ فيما بين المجال العام والخاص من منظور النوع، كمحاولة ربطها بين العائلة في المجال الخاص والوضع الاقتصادي بالمجال العام، فلم تضع النظرية قضايا النوع في اعتبارها وتجاهلت الأبوية كبنية اجتماعية تؤثر في فرص تواجد الرجال والنساء في المجال العام والخاص. مثال على ذلك، تقسيم أدوار العمل من حيث تحديد دور الرجل كعائل للأسرة ودور المستهلك والرابط بين الأسرة والاقتصاد للمرأة.

إضافة لذلك، ولأن هابرماس لم يتطرق إلى "جندرة" تلك الأدوار، غاب عنه مدى ارتباط مفهوم "المواطن" الذي يلعب دوراً محورياً بالعملية السياسية وخلق المجال العام في نظريته بالرجال والرجولية. فتاريخياً احتكر الرجال الأدوار وحتى الصفات الاجتماعية اللازمة لممارسة المواطنة، وعادةً ما كان ينظر إليها كنقائض لنظرتهم عن الأنوثة.3

تلك الثنائيات فتحت المجال العام للرجال، بينما حصرت النساء ودورهن في المجال الخاص. وواجهت النساء صعوبة بالغة في رفع مطالبهن وتوصيل قضاياهن مثل قضايا المساواة في الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية ومناهضة العنف القائم على النوع، ولم يأخذها المجال العام بنفس الجدية مثل القضايا الأخرى التي تؤثر في حيوات الرجال. كذلك استمرت العملية السياسية منحازة للمجال العام "الرجولي" ومهملة للمجال الخاص. وبتهميش الأخير، حافظ الرجال على سيطرتهم على المجالين العام والخاص وعلى احتكار العملية السياسية.

وبالتالي قدمت العديد من النسويات الأكاديميات تحليلات أوضحت الفروق الاجتماعية التي تعيق المشاركة المتساوية في المجال العام. وأظهرت طبيعة العلاقات بين المجالين الخاص والعام، وأهمية اعتبار قضايا المجال الخاص كقضايا سياسية بالأساس.

تلك النظريات ذات أهمية كبيرة عند النظر لأوضاع النساء بالمنطقة العربية، خصوصاً مع انتشار الأنظمة السلطوية والثقافة الأبوية في المنطقة. فمن ناحية نرى أن الأنظمة العربية كثيراً ما حاولت ومازالت تحاول التضييق على المجال العام والتحكم فيه وفرض سياسة الصوت الواحد. كذلك يغلب على تلك الأنظمة الطابع الأبوي، وذلك لعدة أسباب أولها أن غالبية مواقع صنع القرار في الأنظمة العربية تقع في أيدي الرجال.

 ومن جهة أخرى نجد أن النساء كثيراً ما طورن أشكالاً جديدة من الانخراط في المجال العام، واستخدمن أساليب عدة للحفاظ على تواجدهن على حسب المعطيات والسياقات المختلفة. فمثلاً كانت المشاركة في التظاهرات والحركات الاحتجاجية وقيادتها هي الصورة الأساسية لمشاركة النساء بالمجال العام خلال الأعوام الأولى للربيع العربي. وتحولت أوجه تلك المشاركة حسب الأوضاع السياسية لكل دولة بالمنطقة. فنجد مثلاً أن قضايا إدماج النوع الاجتماعي في الدساتير وفي التشريعات الوطنية كانت إحدى المهام الرئيسية للحركة النسوية في تونس ومصر بعد ثورتيهما. كذلك انخراط النساء بالدولتين في الأحزاب السياسية الناشئة حديثاً بعد الثورة مباشرة. من جهة أخرى اعتمدت العديد من النساء في المنطقة شبكات التواصل الاجتماعي كفضاء عام يتواصلن من خلاله، ويتشاركن تجاربهن وخبراتهن مثل الحركات النسوية في دول الخليج العربي كالسعودية والبحرين والكويت. بينما في دول أخرى كانت الأشكال التنظيمية الأكثر رسمية مثل النقابات المهنية والعمالية أكثر ملاءمة للنساء التي استطاعت من خلال مشاركتهن بها إدماج قضايا النساء ببرامج وسياسات النقابات كالحال في الجزائر والسودان، وخاصة وسط حالة الثورات الشعبية والتحول الديمقراطي الجارية حالياً بكلتا الدولتين.

ينطلق هذا التقرير من هذه الخلفية النظرية، التي ترى المجال العام بشكل أوسع من المؤسسات والقنوات الرسمية لممارسة السياسية مثل الانتخابات. والتي تعطي أهمية خاصة إلى التحليل النسوي لهذا المجال الذي يفرض شروطاً قاسية لتواجد النساء بداخله، والذي لا يفصل بين ما تتعرض له النساء في المجال الخاص عن فرص وأثمان مشاركتهن في المجال العام.

تاريخ مشاركة النساء في المجال العام بالمنطقة العربية

تتشارك دول المنطقة العربية تاريخاً طويلاً من انخراط النساء في المجال العام يعود إلى بدايات القرن العشرين تزامناً مع الحركة الإصلاحية العربية. وشهدت تلك البدايات المطالب الأولى لنساء المنطقة، والتي تمحورت حول قضايا المساواة والحقوق الاقتصادية والاجتماعية للنساء مثل حق النساء في التعليم والصحة وفي العمل ورفع السن الأدنى للزواج. تجسدت الحركة في تلك الفترة في الجمعيات النسائية التي أنشأتها نساء الطبقة البرجوازية، مثلما حدث في مصر منذ أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. مثال على ذلك المظاهرات النسائية الكبرى التي قامت يوم 16 مارس 1919 خلال ثورة 1919 ضد الاحتلال البريطاني لمصر.4 وبدأت تظهر التنظيمات والكيانات النسائية مثل الاتحاد النسائي التهذيبي الذي أسسته ملك حفني ناصف في أوائل القرن العشرين ثم الاتحاد النسائي والذي أسسته هدى شعراوي عام 1923. شهد النصف الأول من القرن العشرين العديد من الأحداث التاريخية الفارقة أهمها حركات التحرر الوطني ضد الاستعمار، وكانت النساء في قلب ذلك الحراك، وشاركن في العديد من التظاهرات والحركات الاحتجاجية ضد المستعمر. اعتبرت رائدات الحراك النسوي أن قضايا الاستقلال جزءاً أصيلاً من نضالهن، وهو على سبيل المثال ما أكدت عليه هدى شعراوي وسيزا نبراوي ونبوية موسى خلال مشاركتهن في مؤتمر النساء الأول الذي انعقد في روما عام 1923.5

شهدت الأربعينيات تطوراً كبيراً في تواجد النساء بالمجال العام، فاتسمت عقلية نساء تلك المرحلة بنضج سياسي واضح. وكان خطابهن مبنياً على نضال النسويات الأوائل، لكنه في نفس الوقت كان أكثر اتساعاً وتطوراً. طالبت النساء في تلك المرحلة بالمساواة في الحقوق المدنية والسياسية مثل الحق في التصويت والترشح في الانتخابات والمساواة في الحقوق الشخصية، بجانب حراكها من أجل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. اتسمت تلك المرحلة أيضاً بنشاط نساء المنطقة في مساندة الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال الإسرائيلي. على سبيل المثال برز اتحاد بنت النيل في مصر عام 1948 الذي أسسته درية شفيق، واتحاد النساء التونسيات عام 1944، وجمعية النساء المغربيات عام 1947، وجمعية الفتاة العربية الجزائرية عام 1940، واتحاد نساء الجزائر عام 1944 الذي قدم مطلب حق التصويت للجزائريات عام 1947، بالإضافة إلى تنظيم "النساء الجزائريات المسلمات" الذي تأسس في تجمع ضخم عام 1947. وفي لبنان المجلس النسائي اللبناني عام 1943، وجمعية المرأة اللبنانية عام 1947، وفي السودان من خلال رابطة الفتيات الثقافية وجمعية ترقية المرأة في السودان عام 1945، كذلك شهدت الأربعينيات نشأة الاتحاد النسائي العراقي عام 1945، والاتحاد النسائي الأردني عام 1945. وفيما يلي بعض أبرز المحطات التاريخية لتواجد النساء بالمجال العام:

1- شمال أفريقيا

خلال الخمسينيات من القرن الماضي، ومع موجات التحرر الوطني التي انتشرت في القارة الأفريقية، حشدت النساء لحقوقهن المدنية والسياسية مثل الحق في التصويت والحق في الترشح للانتخابات. فمثلاً شكلت النساء في السودان العديد من الاتحادات في الفترة التي سبقت الاستقلال. وفي عام 1952 كان قد تم تأسيس الاتحاد النسائي السوداني الذي -بجانب ناشطات أخريات- قد مارس ضغوطاً على حكومات متتابعة لحصول النساء على حقهن في التصويت، والذي اكتسبنه في عام 1965 بعد الإطاحة بأول حكم عسكري في السودان من خلال الانتفاضة الشعبية عام 1964. وفي نفس العام انتخبت السودان أول امرأة كعضوة في البرلمان؛ فاطمة أحمد إبراهيم. ولم يتوقف الاتحاد النسائي السوداني عند هذا الحد، ولكن في عام 1965 مارس ضغوطات من أجل المساواة في الأجور بين الرجال والنساء وتهيئة ظروف العمل لتناسب النساء، مما شمل الحصول على ساعة راحة خلال يوم العمل للأمهات المرضعات.

وفي موريتانيا حصلت النساء على حقهن في التصويت عام 1961، وتم انتخاب أول امرأة في البرلمان عام 1975. تاريخياً لم يتم تسليط الضوء على حراك النساء في موريتانيا بشكل كاف. وبالرغم من ذلك، فإن أدوار النساء الموريتانيات هي من الأكثر بروزاً ونشاطاً مقارنة بباقي دول المنطقة. ولكن بعد الانقلاب العسكري عام 2008، تم التضييق على الحراك النسائي في موريتانيا بشكل كبير. مما أدى إلى مواجهة النساء العديد من التحديات مثل الفقر والزواج المبكر والزواج بالإكراه وحرمان الفتيات من فرص التعليم.

أما عن بلاد المغرب العربي، فإن كل من المغرب وتونس والجزائر اتبعت مساراً مختلفاً فيما يتعلق بالتمسك بحقوق النساء وتمكين النساء في المجال العام. فمثلاً فيما يخص قوانين الأحوال الشخصية، فإن حكومة المغرب بعد الاستعمار كانت متحالفة مع المجموعات القَبلية، ولذلك اعتمدت قانوناً للأسرة يتسم بالمحافظة. ولكن حشد النساء المغربيات أدى إلى تطورات كبيرة بالقانون، فنتج عن عمل المنظمات النسوية مثل اتحاد العمل النسائي والجمعية الديمقراطية لنساء المغرب قانون أسرة أكثر تقدمية في عام 2004. ولم يختلف الوضع كثيراً في الجزائر، حيث أصدرت جبهة التحرير الوطني الحاكمة قانون أسرة محافظ متجاهلة حقوق النساء، بالرغم من ادعائهم المستمر بالاهتمام بالنساء وحقوقهن. ناضلت النساء الجزائريات طويلاً لتطوير القوانين والتشريعات الخاصة بحقوق النساء كما سيتناول التقرير لاحقاً. واختلف السياق نسبياً في تونس، حيث اعترفت الدولة بحقوق النساء، وطورت قانوناً للأحوال الشخصية يعد أكثر تقدمية من القوانين المماثلة في دول المنطقة، وهو "مجلة الأحوال الشخصية".

2- غرب آسيا

اختلف السياق السياسي في بلدان منطقة غرب آسيا عن شمال أفريقيا من حيث أن المنطقة كانت تعاني من عدم استقرار سياسي في كل دولة منها باستثناء الأردن. فعانت لبنان وسوريا والعراق من انقلابات حتى منتصف الستينيات وأوائل السبعينيات، عندما بدأت الأنظمة تستعيد السيطرة تدريجياً في العراق وسوريا مستخدمة أساليب قمعية. أما في لبنان فاستمرت النزاعات السياسية حتى اندلعت الحرب الأهلية، واستمرت حتى أواخر الثمانينيات، غير أن النظام السياسي مازال يعاني من عدم الاستقرار. هذه الأحداث أثرت بشدة على النساء وجهودهن لتحقيق المساواة والمشاركة السياسية المتساوية. ومعظم الحركات النسائية بدأت بمناصرة الحقوق الاجتماعية والاقتصادية مثل ما حدث في شمال أفريقيا، مطالبةً بحق النساء في التعليم وحقوق العمل.

واجهت النساء أحكاماً وممارسات أبوية وقمعية سواء في سوريا أو لبنان أو العراق. على سبيل المثال الحركة النسوية في سوريا، إذ تم التعامل معها إما بالحظر أو بالاحتواء من قبل الحكومة. وتركت الحكومة فقط منظمة الاتحاد العام للمرأة السورية، ولم تحصل أي منظمة نسائية أخرى على ترخيص حتى عام 1963. مما أدى إلى الحد من عمل وتأثير الاتحاد العام للمرأة السورية، وأصبح الكثيرمن عمله صورياً فقط بدون تقديم الكثير من مساعدات الفعلية للنساء. وفي الثمانينيات تغير الوضع قليلاً عندما بدأت نساء أكثر في الحديث عن حقوق النساء من منظور جندري. حنان نجمة تعد مثالاً جيداً للمدافعات عن حقوق النساء السوريات اللاتي طالبن بتغييرات في القوانين لصالح النساء، مما أدى إلى بعض التنازلات من قبل الدولة. حيث دافعت عن حقوق النساء، وعملت على تعديل بعض القوانين التمييزية ضد النساء خصوصاً فيما يتعلق بالأحوال الشخصية، وذلك من خلال عضويتها بمجلس الشعب السوري، ولاحقاً من خلال ترأسها للجنة قانونية لتعديل قانون الأحوال الشخصية عام 2003. لكن التعديل الذي اقترحته اللجنة لم يُطبَّق ولم يؤخذ به.6

وفي لبنان ومنذ نهاية الاستعمار عام 1943، يمكن تعريف نظام الحكم هناك بأنه يقوم على "الديمقراطية التوافقية"، حيث إن نظامها السياسي قائم على تشارك السلطة بين الطوائف الدينية الثماني عشرة المتواجدة بها. حيث يتم اختيار المرشحين والمرشحات وتعيين المسؤولين والمسئولات، سواء في البرلمان أو في الحكومة أو في المؤسسات الرسمية وفقاً لحصص كل طائفة. وهناك بالتوازي خمسة عشر قانوناً للأحوال الشخصية في لبنان، يميز كل واحد منهما ضد النساء لصالح الرجال في كل المواد تقريباً، مما يوضح توغل النظام الأبوي في الجانب القانوني والاجتماعي في الدولة. حصلت النساء اللبنانيات على حقهن في التصويت والترشح للانتخابات عام 1953، وبالرغم من ذلك لم تستطيع النساء دخول البرلمان حتى عام 1963. وحتى بعد 1963 معظم النساء في البرلمان حصلن على مقاعدهن كنتيجة للتوريث السياسي؛ لكونهن أرامل أو زوجات أو بنات أو أخوات لشخصيات سياسية من الرجال.

بالتأكيد أثر استمرار الحرب الأهلية في لبنان حتى عام 1989 تأثيراً بالغاً على النساء ومشاركتهن في المجال العام والحياة السياسية. وبالرغم من ذلك ناضلت النساء من أجل مساحات في المجال العام حتى أصبحن يمثلن ما يقرب من نصف القضاة في الدولة، بالرغم من الجهود الأبوية المتعددة لوقف تلك النسب العالية لتمثيل النساء.

أما عن الأردن، فتمتعت النساء الأردنيات بظروف سياسية أفضل، على الأقل فيما يتعلق باستقرار النظام السياسي. لكن كان لهن نصيبهن من النضال النسوي للحصول على المساواة والمشاركة السياسية الفعالة. فقد انخرطت النساء الأردنيات في القضية الفلسطينية منذ النكبة في عام 1948. وفي عام 1954 تم تأسيس اتحاد النساء العرب من قبل نساء متضامنات مع الحركة الوطنية الأردنية تحت قيادة إيميلي بشارات؛ أول محامية أردنية. وتمكن اتحاد النساء العرب من الحصول على واحد من أهم أهدافه القانونية والسياسية، وهو حق النساء في التصويت في الانتخابات البرلمانية. وبالرغم من ذلك تم تطبيقه بشكل انتقائي وبه تمييز، بحيث لا يمكن للنساء التصويت إلا في حالة إنهاء المرحلة الابتدائية من التعليم، بعكس الرجال الذين كان لهم حق التصويت حتى وإن كانوا أميين. واستمر الاتحاد في عمله الشاق من أجل تغييرات وتعديلات قانونية مثل إلغاء تعدد الزوجات في قانون الأحوال الشخصية، وفي قانون العمل من أجل توفير ظروف أفضل للنساء العاملات، من خلال حماية حقهن في العمل والمساواة في الأجور وتوفير إجازات أمومة للأمهات العاملات. ومع قرار الملك حسين عام 1957 بحظر كل الأحزاب السياسية والتنظيمات الأخرى في الأردن، تم حل اتحاد النساء العرب.

وفي هذه المرحلة تبلورت التوجهات النسوية لدى الحركة، إذ اعتبرت حق النساء في المشاركة في المجال العام جزءاً أصيلاً من المجتمع. ولكن تحولت الحركة إلى مجتمع سري أو غير رسمي حتى عام 1974. وفي 1981، بدأت الأردن في التوجه نحو نسوية الدولة، حين أسست الاتحاد النسائي الأردني العام.

ويحمل السياق العراقي تاريخاً مشابهاً لباقي دول المنطقة. حيث تم تأسيس الاتحاد النسائي العراقي عام 1945، واستمر نشاطه خلال الأربعينيات والخمسينيات. ليس فقط في العمل الخيري، بل أيضاً في مجال تعليم النساء والتشبيك بين المنظمات النسائية المختلفة داخل العراق وفي دول المنطقة العربية. كما تطرقت عضوات الاتحاد لقضايا كانت تعد شائكة مثل العمل بالجنس التجاري، والطلاق وحضانة الأطفال، وحق النساء في العمل.7 وفي الخمسينيات انخرطت النساء العراقيات في الحركة الطلابية للاستقلال الوطني. وأصبحت النساء ناشطات خلال ذلك الوقت في المنظمات النسائية الناشئة مثل رابطة الدفاع عن حقوق المرأة. إحدى مؤسِّسات المنظمة هي الدكتورة نزيهة الدليمي، وهي من ألهمت آلاف النساء الشابات للانضمام إلى النضال من أجل الحقوق القانونية للنساء، وأصبحت فيما بعد أيقونة نسوية. الدكتورة نزيهة الدليمي أصبحت أيضا أول امرأة تتولى منصب "وزيرة" في المنطقة العربية، بعد تعيينها وزيرة للبلديات في عام 1959.8

أما عن وضع النساء الفلسطينيات، فمنذ بداية القرن العشرين شاركت النساء الفلسطينيات في الحركات السياسية والاجتماعية. ولكن الظروف السياسية بدءًا من الاستعمار البريطاني حتى الاحتلال الإسرائيلي، قد أسهمت في بلورة الدور السياسي للنساء الفلسطينيات في التظاهرات والمسيرات والاعتصامات. فمن النكبة في عام 1948 إلى النكسة في عام 1967، وقعت على المجتمع الفلسطيني أضراراً بالغة في النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ولعبت النساء أدواراً كبيرة في تحسين الحياة الاجتماعية بتقديم جهود إغاثة للعائلات المتضررة. وفي عام 1964، تم تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية، وحصلت النساء على حصة في المجلس الوطني تراوحت بين 2% في 1964 إلى 7.5% في الجلسة التي عقدت في غزة عام 1995. وفي آخر دورة ارتفعت نسبة النساء في المجلس الوطني عام 2018 إلى 10%، كما تم التصديق على توصية من المجلس المركزي في عام 2015 بتخصيص حصة للنساء بواقع 30% لكنها لم تطبق حتى الآن، وهو ما ترجعه الحركة النسائية الفلسطينية إلى نقص الإرادة السياسية.

وفي عام 1965 تم تأسيس الاتحاد العام للمرأة الفلسطينية في القدس ونابلس، ممثلاً رسمياً للنساء الفلسطينيات داخل منظمة التحرير الفلسطينية. كان الاتحاد يهدف إلى تكوين منصة/مساحة ديمقراطية لكل النساء الفلسطينيات، وكان يسعى إلى دمج النساء في كل نواحي الحياة السياسية والاجتماعية والقضائية، وإلى تحقيق المساواة بين النساء والرجال في كل الحقوق والواجبات، بالإضافة إلى زيادة وعي النساء بحقوقهن المشروعة. وشكّل عام 1978 محطة فارقة لدى مبادرة الجبهة الديمقراطية إلى تأسيس أو لإطار نسوي تحت اسم اتحاد لجان العمل النسائي ومن ثم توالى تأسيس الأطر النسوية: حيث شكل حزب الشعب الفلسطيني اتحاد لجان المرأة العاملة، والجبهة الشعبية سلكت إطارها النسوي تحت اسم اتحاد لجان المرأة الفلسطينية، وكذلك قامت حركة فتح بتأسيس اتحاد لجان العمل الاجتماعي في عام 1981. وعبر تشكيل الأطر النسوية عن التحول إلى العمل الجماهيري ونقل مركز ثقل العمل إلى القاعدة ودمج النساء من مختلف المناطق الجغرافية، الحضرية والريفية ومخيمات اللاجئين في النضال الوطني والاجتماعي، في داخل الوطن ومختلف مناطق اللجوء والشتات.

وبعد اتفاقية أوسلو عام 1993، تم تشكيل السلطة الوطنية الفلسطينية كممثل رسمي للشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة. وبدأت النساء في الدفع من أجل قوانين ومؤسسات جديدة لتعزيز وحماية حقوق النساء وتنشيط مشاركتهن في المجال العام.9

3- الخليج العربي

بدأت الحركة النسائية ومشاركة النساء في المجال العام في دول منطقة الخليج بعد مرور فترة على بدء نظيراتها في شمال أفريقيا وغرب آسيا. ويرجع ذلك لأسباب تتعلق باعتبارات العادات والتقاليد الاجتماعية التي تسلب النساء حقهن في المشاركة في المجال العام. حيث تم قبول النساء في المدارس لأول مرة في البحرين عام 1938؛ بعد مرور 25 سنة على تأسيس أول مدرسة للذكور. واستمر هذا الوضع حتى أوائل السبعينيات، عندما بدأت مدارس الإناث في الانتشار في سلطنة عمان وفي بعض إمارات دولة الإمارات العربية المتحدة.

لعب التعليم في البحرين دوراً جوهرياً في ظهور الحركة النسائية، والتي كانت بداياتها تأثراً بمحاولات النساء للتخلص من العادات الأبوية المفروضة عليهن. كما كانت النساء البحرينيات منفتحات على باقي دول المنطقة العربية، وكان يدفعهن الانفتاح النسبي بهذه الدول للمجال العام. في عام 1954 تم تأسيس هيئة الاتحاد الوطني، التي انطلقت منها معظم التحركات الوطنية فيما بعد. ونجحت في تنظيم العديد من الإضرابات العامة والتظاهرات للمطالبة بحقوق المواطنين/ات البحرينيين/ات وإنهاء الاحتلال البريطاني.

نظمت هيئة الاتحاد الوطني تظاهرات وإضرابات رداً على العدوان الثلاثي على مصر بعد قرار تأميم قناة السويس. ولم تكن النساء بعيدة عن هذه التحركات، بل كانت جزءًا من قوات الحشد لها. وعادةً ما يربط الباحثون والباحثات بين بداية الحركة النسوية في البحرين وبين نشأة هيئة الاتحاد. اثنان من قيادات الهيئة كانتا من النساء، وهما الأختان شهلا وبدرية خلفان. وتم توثيق دورهما في حث النساء على المشاركة في الحراك المناهض للاستعمار. ولكن لاحقاً واجهت هيئة الاتحاد هزيمة كبيرة وتم اعتقال قياداتها. ومن المثير للاهتمام أن تاريخ النساء والحركة النسوية في البحرين، كان ظهوره يرجع إلى الاستياء من تولي النساء البريطانيات قيادة المجتمعات النسائية، ولذلك كان هناك الكثير من النداءات لبناء مجتمعات نسائية وطنية. وأسست نساء قيادات الهيئة منظمة خيرية للنساء عام 1955 سميت نهضة فتاة البحرين؛ وأصبحت بذلك أول منظمة نسائية في الخليج. وقد ناصرت المنظمة -إلى جانب منظمات أخرى تم تأسيسها في العقود التالية- الحقوق السياسية للنساء وقامت بإرسال عريضة إلى رئيس هيئة الاتحاد الوطني وإلى الأمير. ولكن مع حل هيئة الاتحاد وإصدار قانون الأمن الوطني، تراجع نشاط النساء في المجال العام أو على الأقل الأشكال الرسمية منه.

مارست النساء في الكويت ضغوطاً على الحكومة حتى تحترم وتطبق مبادئ المساواة المنصوص عليها في الدستور. وذلك للحصول على حقوقهن السياسية وخاصة الحق في التصويت والحق في الترشح لمجلس الأمة. ولكن قانون الانتخابات جعل حق المشاركة في مجلس الأمة مقصوراً على الرجال، وحرم النساء الحق في التصويت والحق في الترشح للانتخابات والحق في تولي مناصب وزارية.

في عام 1977 تم تقديم عريضة موقعة من عدد يقارب 400 من النساء الكويتيات إلى أمير الكويت تشمل عدد من المطالب. تضمنت تلك المطالب إعطاء النساء حقوقهن السياسية الكاملة. غير أن مجلس الأمة رفض الاعتراف بهذه الحقوق. ولاحقاً بعد حرب الكويت خلال عامي 1990 و 1991، أصدر الأمير قراراً ملكياً في غياب مجلس الأمة بإعطاء النساء حقوقهن السياسية تقديراً لجهودهن في الدفاع عن الكويت خلال الاحتلال العراقي. ولكن مجلس الأمة الذي أعيد انتخابه حكم بعدم قانونية القرار، ورفض الحقوق السياسية للنساء بالأغلبية البسيطة. وحتى أعضاء المجلس المعروف عنهم انفتاحهم، صوتوا ضد حقوق النساء من أجل بقائهم في الساحة السياسية.

هكذا تطورت الحركات النسوية في المنطقة العربية في سياق ما يسمى بمجتمعات "الأبوية الجديدة". وهي ما نتجت عن تلاقي الحداثة مع التقاليد والعادات المجتمعية، وخصوصاً في مرحلة ما بعد الاستعمار. فضَّلت الدول الحقوق الاقتصادية والاجتماعية على الحقوق المدنية والسياسية، الأمر الذي انعكس على النساء. فنجد أن أغلب دول المنطقة أعطت النساء حقوقاً مثل الحق في العمل والحق في التعليم بينما تأخرت الاستحقاقات الأخرى الخاصة بالحقوق السياسية والمدنية للنساء مثل الحق في الانتخاب والتصويت وقضايا الأحوال الشخصية.

  • 1. Antony Flew, A Dictionary of Philosophy (2nd edn, St Martin’s Press 1984)
  • 2. Jurgen Habermas, The Structural Transformation of the Public Sphere: An Inquiry into a Category of Bourgeois Society (Thomas Burger tr, The MIT Press 1991)
  • 3. a. b. Johanna Meehan (ed), Feminists Read Habermas: Gendering the Subject of Discourse (Routledge 1995)
  • 4. هالة كمال ‘لمحات من مطالب الحركة النسوية المصرية عبر تاريخها’ أوراق الذاكرة (5) مؤسسة المرأة والذاكرة (2016) <https://tinyurl.com/y4mqx96e>
  • 5. Mervat F Hatem, ‘Economic and Political Liberation in Egypt and the Demise of State Feminism’ (1992) 24 International Journal of Middle East Studies 231 <http://www.jstor.org/stable/164296> accessed 14 August 2018
  • 6. ‘A Look at Syria’s Long History of Feminist Movements’ (Global Voices, 21 February 2019) <https://globalvoices.org/2019/02/21/a-lo... accessed 11 April 2019
  • 7. Noga Efrati, ‘The Other “Awakening” in Iraq: The Women’s Movement in the First Half of the Twentieth Century’ (2004) 31 British Journal of Middle Eastern Studies 153 <http://www.jstor.org/stable/4145506> accessed 12 April 2019
  • 8. Nadje Al-Ali, Iraqi Women: Untold Stories from 1948 to the Present (Zed Books 2007)
  • 9. Dima Samaroo, ‘The Political Participation of Palestinian Women in Official and Non-Official Organizations in Limited Horizon’ (International Centre for the Studies of Radicalisation, King’s College London 2018) <https://icsr.info/wp-content/uploads/201... accessed 12 April 2019